(الاعتراف بالجميل خلق إسلامي أصيل)
د. أنس محمد الغنام.
بسم الله الرحمن الرحيم.
الاعتراف بالجميل خلق من الأخلاق الفاضلة، وسجية من السجايا الكريمة، تدل على سلامة القلب، وطهارة النفس، ونقاء السريرة، كما أنها تدل على قيمة من أعظم القيم الإسلامية وهي الوفاء، أما عدم الاعتراف بالجميل والتنكر لصاحبه فإنه يدل على خسة النفس ولؤم الطبع، فالأول من الأخلاق الملائكية، والثاني من الأخلاق الشيطانية، وشتان ما بين الخلقين؛ لذلك حرص الإسلام على ترسيخ هذا الخلق في نفوس أتباعه، وغرسه في قلوبهم؛ لأنه يترتب عليه صلاح المجتمع، والمساعدة في تقوية روابط الألفة والمحبة بين أفراده، حتى يصيروا كالجسد الواحد، والبنيان الواحد الذي يشد بعضه بعضًا.
والإنسان في هذه الحياة لا يعيش وحيدًا، وإنما يعيش في مجتمع يتفاعل فيه مع أفراده تفاعلاً لا يمكنه أن يعيش في الحياة بدونه، فالإنسان كما هو معلوم كائن مدني بطبعه، وهذا التفاعل ينتج عنه وجود أناس لا حصر لهم قد يفعلون معه جميلاً، أو يسدون له نصحًا، أو يؤدون له خدمة، أو يقضون له حاجة، أو يساعدوه في بلوغ هدف لا يستطيع الوصول إليه بمفرده، ومن هنا تنبع أهمية الاعتراف بالجميل لأهله، والإقرار بالفضل لذويه؛ لأنه خلق يتعلق بشيء يكتنف حياتك كلها، من حيث أنك فرد ضمن مجموع من الناس.
والاعتراف بالجميل لا يقتصر فقط على الأفراد الذين تعيش معهم، أو تتعامل معهم في علاقات مجتمعية، أو نشاطات حياتية، وإنما الأمر أعمق من ذلك بكثير، فهناك ما هو أهم من ذلك كله، وهو الاعتراف بالجميل لله رب العالمين، وكذلك الاعتراف بالجميل لرسوله الكريم، لذلك سوف نقسم الاعتراف بالجميل إلى عدة أقسام وهي حسب الأهمية:
1- الاعتراف بالجميل لله رب العالمين.
2- الاعتراف بالجميل للرسول صلى الله عليه وسلم.
3- الاعتراف بالجميل للوالدين.
4- الاعتراف بالجميل بين الزوجين.
5- الاعتراف بالجميل لعامة الناس.
أولاً- الاعتراف بالجميل لله رب العالمين:
كل نعمة نتنعم بها في حياتنا هي من فضل الله -عز وجل- علينا، بل وجودنا في حد ذاته في هذه الحياة هو من فيض جوده وكرمه، فالله يتولانا بعنايته، ويحوطنا برعايته من أول كوننا نطفة في أرحام أمهاتنا إلى أن نصير ترابًا في بطون قبورنا، ونعمه في هذه الحياة المديدة تترى علينا، وتكتنفنا من كل جانب؛ لذلك لا نستطيع عدها، ولا يمكننا إحصاءها، قال تعالى: (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) النحل: 18.
وإذا كانت حياتنا وما فيها هى من فضل الله عز وجل؛ فإن هذا يستوجب الاعتراف بجميله علينا، والإقرار بحسن صنيعه بنا، وهذا الاعتراف إنما يكون بشكره على نعمه، لذلك أمرنا الله بشكره، والإقرار بفضله، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) البقرة: 172، وقال أيضًا: (فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) النحل : 114، كما يكون الاعتراف بالجميل لله بالثناء عليه، والإكثار من ذكره، مع عبادته، والخضوع له، وتنفيذ أوامره والابتعاد عن معصيته، مع استحضار عظمته في القلوب، وتمكين خشيته من النفوس.
وعلى هذا يكون الاعتراف بالجميل لله يشمل عمل اللسان بالإقرار بجميله وشكره عليه مع الثناء الحسن والذكر الجميل، كما يشمل عمل القلب بالإقرار بفضله، واليقين بعظم نعمته مع خشيته ومراقبته، وأخيرًا عمل الجوارح بالإخلاص في عبادته، والمسارعة إلى طاعته بتنفيذ أوامره واجتناب نواهيه.
ثانيًا- الاعتراف بالجميل لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم منة علينا، وأفضل جميل طوق رقابنا، وهل هناك أفضل من أن أنقذنا الله به من الضلالة، وعلَّمنا ما أخرجنا به من الجهالة حتى صرنا ببعثته خير أمة أخرجت للناس؛ لذلك كل ما نحن فيه من فضل ونعمة إنما هو بفضل دعوته، وببركة رسالته، وفي هذا يقول الإمام الشافعي: “فلم تُمس بنا نعمة ظهرت ولا بَطَنَت، نلنا بها حظًا في دين ودنيا أو دُفِعَ بها عنا مكروه فيهما، وفي واحد منهما: إلا ومحمد صلى الله عليه سببها، القائدُ إلى خيرها، والهادي إلى رشدها”.
هذا بالإضافة إلى شفقته التامة علينا، ورحمته التامة بنا، قال تعالى: (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) التوبة: 128، مع حرصه الكبير على إنقاذنا من النار، وزحزحتنا عن عذابها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: (إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا) رواه البخاري.
كما كان همه الشاغل هو أمته، فلم يكن يفكر إلا في هدايتها، ولم يكن يهتم إلى بما فيه نجاتها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فَتَعَجَّلَ كُلُّ نَبِيٍّ دَعْوَتَهُ، وَإِنِّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لِأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهِيَ نَائِلَةٌ إِنْ شَاءَ اللهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِي لَا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا) رواه مسلم، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَلَا قَوْلَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي إِبْرَاهِيمَ: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ث فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ث وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) إبراهيم: 36، وَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ث وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) المائدة: 118، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: (اللَّهُمَّ، أُمَّتِي أُمَّتِي) وَبَكَى، فَقَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- (يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَرَبُّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ() فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَام- فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ، فَقَالَ اللهُ: يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ فَقُلْ: (إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ وَلَا نَسُوءُكَ) رواه مسلم.
كما أنه لاقى العنت والمشقة في سبيل نشر هذا الدين وتوطيد أركانه في الأرض، فما وصل إلينا هذا الدين إلى عن طريق جهاده الطويل ضد أعداء الدين، وصبره الجميل على مصاولتهم حتى رفعت رايته، وعلا لوائه، ووصل إلينا سهلاً ميسرًا؛ لذلك يجب علينا أن نحفظ جميل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونكون أوفياء له مقرين بفضله علينا، وهذا الاعتراف إنما يكون بمحبته محبة خالصة تكون أعظم من محبة الأهل والمال والولد، وهذا هو دليل الإيمان الكامل، فعَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) رواه البخاري.
كما يكون هذا الاعتراف بطاعته، واتباع سنته، وعدم الزيغ عنها، كما يكون بتوقيره وتعظيمه وعدم تقديم قول أو فعل على قوله وفعله قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) الحجرات: 1، كما يكون أيضًا بكثرة الصلاة عليه، والثناء على أفضاله ومحامده التي لم تعرف لغيره من نبي مرسل أو ملك مقر.
ثالثًا- الاعتراف بالجميل للوالدين:
للوالدين على ولدهما فضل عظيم، فهما سبب وجوده في هذه الحياة بعد الله عز وجل، ولكم تعبا وذاقا العنت والمشقة في تربية ولدهما، فهذه الأم تقاسي من الآلام ما تنوء بها الجبال حال ولادة ولدها، ثم تلاقى عنتًا ومشقة في رضاعته وتربيته، وكذلك الأب يظل يسعى في الحياة ليوفر لولده لقمة العيش التي تسد جوعه، وتقيم أوده، ويظلان على هذا الحال في تربية ولدهما مع المحبة الكاملة والشفقة الكبيرة، حتى يصير شابًا يافعًا، وفتى قويًا، وفي أحيان كثيرة كانا يسهران لينام، ويجوعان ليشبع، ويحرمان على أنفسهما اللقمة ليطعمها، وهما في ذلك مغتبطان مسروران.
إن جميل الأب والأم على ولدهما لا يقدر قدره إلا الله -عز وجل-؛ لذلك يجب على الولد أن يعترف بجميلهما، وحسن صنيعهما، ولا يكون ذلك إلا ببرهما والإحسان إليهما، وتوقيرهما ومعاملتهما بكل أدب واحترام؛ لذلك جعلت الشريعة من أعظم أعمال البر هو بر الوالدين حتى يحمل الأبناء على الوفاء لآبائهم، والاعتراف بجميلهم عليهم في تربيتهم والعناية بهم وخاصة وقت الضعف عندما يكون الابن رضيعًا أو طفلاً صغيرًا لا يستطيع أن يوفر لنفسه ما يحفظ حياته، أو يستبقي قوته ، قال تعالى: (قَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) الإسراء: 23-24.
رابعًا- الاعتراف بالجميل بين الزوجين:
لكل من الزوجين الفضل على الآخر، فالزوج يسعى في الحياة ليوفر لقمة العيش لزوجته، ويظل يكدح لكي يحصل لها ما تحتاجه من ضروريات الحياة من طعام وشراب وكساء، بل يوفر لها في أحيان كثيرة بعضًا من متع الحياة وكماليتها، وهذا جميل يستوجب شكره والاعتراف به.
وكذلك الزوجة لها فضل كبير على زوجها فهي التى تربي له أولاده في غيبته، وتحفظ ماله، وتطبخ طعامه، وتغسل ثيابه، وتوفر له الهدوء والاستقرار في المنزل، حتى يجد فيه الزوج راحته وأنسه بعد عناء العمل، والتعب في القيام به.
لذلك يجب على كل من الزوجين الاعتراف بجميل كل منهما على الآخر، وخاصة وقت المشاكل التي قد يدب دبيبها داخل البيت، فالحياة يستحيل أن تكون كاملة السعادة، دائمة الهناء، وإنما يعتريها من المنغصات ما يذهب بهدوئها، ويزعزع استقرارها، وهنا يأتي دور العقل لكل من الزوجين أن يتذكر كل منها جميل الآخر، وحسن صنيعه معه على امتداد حياة طويلة بينهما، وعندئذ يسهل حل هذه المشاكل، وتخطي أضرارها، بل إن الله -عز وجل- قد أرشدنا إلى الاعتراف بالجميل بين الزوجين عند الطلاق حيث قال: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) البقرة: 237، فمع أن الطلاق يجلب العداوة والبغضاء بين الزوجين بل بين عائلتيهما إلا أن الشريعة مع ذلك أمرتنا أن نحفظ الجميل، ونرعى الود، وهذا يدل على محاسن الشريعة، ومكارم الأخلاق التي تأمر بها، إنها تريد أن تقطع دابر العداوة والبغضاء عن طريق الاعتراف بالجميل، وعدم نسيان الفضل بين الزوجين؛ لذلك كان مقياس الحياة الزوجية الفاضلة سواء كانت قائمة، أو قد انقطع حبلها هو قوله: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) البقرة: 237.
ويتمثل هذا الخلق في أكمل صوره في اعتراف النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجميل للسيدة خديجة -رضي الله عنها- حيث واسته بمالها، ووقفت بجواره تسانده وتؤيده في دعوته، وخاصة في أوائلها عندما هدأت من روعه، وطمأنت قلبه عندما فاجأه الوحي أول مرة في غار حراء، وقالت كلمتها الخالدة: (والله لن يخزيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق)، لذلك كانت من أوائل من آمن به وصدقه في دعوته، لذلك ظل النبي -صلى الله عليه وسلم- معترفًا بجميلها وفيًا لها، ويكثر من ذكرها والثناء عليها لدرجة جعلت السيدة عائشة تغار منها، فعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا غِرْتُ عَلَى نِسَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا عَلَى خَدِيجَةَ وَإِنِّي لَمْ أُدْرِكْهَا، قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا ذَبَحَ الشَّاةَ، فَيَقُولُ: (أَرْسِلُوا بِهَا إِلَى أَصْدِقَاءِ خَدِيجَةَ) قَالَتْ: فَأَغْضَبْتُهُ يَوْمًا، فَقُلْتُ: خَدِيجَةَ فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنِّي قَدْ رُزِقْتُ حُبَّهَا) رواه مسلم.
وعنها أيضًا قَالَتْ: اسْتَأْذَنَتْ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ أُخْتُ خَدِيجَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَرَفَ اسْتِئْذَانَ خَدِيجَةَ فَارْتَاحَ لِذَلِكَ فَقَالَ: (اللهُمَّ هَالَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ) فَغِرْتُ فَقُلْتُ: وَمَا تَذْكُرُ مِنْ عَجُوزٍ مِنْ عَجَائِزِ قُرَيْشٍ، حَمْرَاءِ الشِّدْقَيْنِ، هَلَكَتْ فِي الدَّهْرِ فَأَبْدَلَكَ اللهُ خَيْرًا مِنْهَا) رواه مسلم.
خامسًا- الاعتراف بالجميل لعامة الناس:
الإنسان لا يعيش منعزلاً عن الناس مختلٍ بنفسه، وإنما يعيش في مجتمع يتفاعل مع أفراده، ويتعامل معهم؛ لذلك لا بد أن يكون أحد أفراد هذا المجتمع قد صنع معه معروفًا، أو أسدى له نصحًا، أو قضى له حاجة، أو فعل معه أي فعل يستوجب به الحمد والشكر، ومن هنا يأتي الاعتراف بالجميل كدليل على حسن أخلاقه، وكمال إيمانه، وتمام إنسانيته.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا الاعتراف بالجميل، والإقرار بالفضل لصاحبه، وهذا الاعتراف يكون بشكره على جميله، والثناء عليه بحسن صنيعه، فإذا شكرته فإنك عندئذ تكون شاكرًا لله، أما من لم يشكر الناس فإنه لا يشكر الله، فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ لاَ يَشْكُرُ النَّاسَ لا يَشْكُرُ اللَّهَ) رواه الترمذي.
كما يكون الاعتراف بالجميل بمكافأة صاحبه عليه، وإعطائه هدية تطيب قلبه، وتشعره بإعظامك لما أسداه إليك من جميل، فإن لم تستطع مكافأته فادع له دعاءً يشعره بتقديرك لما صنعه معك، وأسداه إليك، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ، فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ) رواه أبو داوود.
وعندما ننظر في سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- نجد أن كان أكثر الناس اعترافًا بالجميل، وإقرارًا بالفضل، وحفظًا للود، ووفاءً بالعهد حتى مع غير المسلم، ولم لا؟ وقد كان أحسن الناس خلقًا، وأكمل الناس أدبًا، وهاكم بعضًا من مواقفه في الاعتراف بالجميل؛ لتكون دافعًا لنا إلى التخلق بهذا الخلق الجميل.
1- اعترافه بالجميل للمطْعِم بن عدي:
والمُطْعِم بن عدي هذا هو الذي أجار النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما أتى من الطائف مهمومًا حزينًا لما رفضوا دعوته، وسلطوا عليه سفهاءهم يقذفونه بالحجارة، فخشي أن يمنعه أهل مكة من دخول مكة، فدخل النبي -صلى الله عليه وسلم- في جوار المطعم حتى يحميه من أذى المشركين، ويمكنه من دخول مكة بلا عنت أو أذى، مع أن المطعم هذا كان مشركًا، وقد حفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الجميل للمطعم، فقال يوم غزوة بدر عندما أسر سبعين من المشركين: (لَوْ كَانَ المُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا، ثُمَّ كَلَّمَنِي فِي هَؤُلاَءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ) رواه البخاري.
2- اعترافه بالجميل لأبي البختري بن هشام:
وهو رجل مشرك وخرج لقتال المسلمين يوم بدر، ومع ذلك نهى النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلمين أن يقتلوه، فقال: (من لقي أبا البختري بن هشام فلا يقتله) سيرة ابن هاشم 629/1 ، ويوضح ابن إسحاق السبب فيقول: “وإنما نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن قتل أبي البختري؛ لأنه كان أكف القوم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو بمكة، وكان لا يؤذيه، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب”.
3- اعترافه بالجميل لعمه أبي طالب:
وها هو -صلى الله عليه وسلم- يرد الجميل لعمه أبي طالب الذي تكفل بتربيته بعد وفاة جده عبد المطلب، فلم ينس له ذلك رغم موته على الكفر، فعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: قلت للنبي -صلى الله عليه وسلم- ما أغنيت عن عمك، فإنه كان يحوطك ويغضب لك، قال: (هو في ضحضاح من نار، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) رواه البخاري.
4- اعترافه بالجميل لأبي بكر الصديق:
لقد كان أبو بكر هو أول من أسلم من الرجال، وسارع في تصديق النبي -صلى الله عليه وسلم- بلا تلكؤ أو تردد، كما كان أكثر الناس مساعدة للنبي في دعوته، سواء ببدنه أو ماله؛ لذلك حفظ له النبي جميله، فقال مثنيًا عليه، ومظهرًا فضله (إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ، لا يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ بَابٌ إِلَّا سُدَّ، إِلَّا بَابُ أَبِي بَكْرٍ) رواه البخاري.
وقال أيضًا مظهرًا فضله: (مَا لِأَحَدٍ عِنْدَنَا يَدٌ إِلَّا وَقَدْ كَافَيْنَاهُ مَا خَلَا أَبَا بَكْرٍ فَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا يَدًا يُكَافِئُهُ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَمَا نَفَعَنِي مَالُ أَحَدٍ قَطُّ مَا نَفَعَنِي مَالُ أَبِي بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا، أَلَا وَإِنَّ صَاحِبَكُمْ خَلِيلُ اللَّهِ) رواه الترمذي.
5- اعترافه بالجميل للأنصار:
فالأنصار هم الذين آووا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونصروه وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل دعوته، وتوطيد أركانها في الأرض، وفتحوا ديارهم وأراضيهم للرسول وصحابته من المهاجرين، وواسوهم بأموالهم، ووقفوا معهم في شدتهم، وآثروهم على أنفسهم؛ لذلك حفظ لهم النبي -صلى الله عليه وسلم- جميلهم، فجعل حبهم من الإيمان، وبغضهم من النفاق فقال: (آيَةُ الإِيمَانِ حُبُّ الأَنْصَارِ، وَآيَةُ النِّفَاقِ بُغْضُ الأَنْصَارِ) رواه البخاري ، كما بيّن فضلهم، ومحبته الشديدة لهم، فقال: (وْلا الهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا وَشِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهَا، الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنَّاسُ دِثَارٌ،) رواه البخاري.
كما أوصى بهم خيرًا، فقال: (أُوصِيكُمْ بِالأَنْصَارِ، فَإِنَّهُمْ كَرِشِي وَعَيْبَتِي، وَقَدْ قَضَوُا الَّذِي عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ الَّذِي لَهُمْ، فَاقْبَلُوا مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَتَجَاوَزُوا عَنْ مُسِيئِهِمْ) رواه البخاري ، ومعنى كرشي وعيبتي: يعني موضع سري وأمانتي.
6- اعترافه بالجميل لصحابته كلهم:
وذلك لجهادهم الطويل معه في سبيل دعوته، وكفاحهم المتواصل في سبيل نصرة دينه، هذا الدين الذي ما قام إلا على أكتافهم، وما توطدت أركانه إلا بسبب تضحياتهم وتحملهم العناء الكبير والتعب المتواصل في سبيل رفع رايته، ونشر لوائه، لذلك نهانا عن سبهم اعترافًا بجميلهم، وإقرار بفضلهم، فقال: (لا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ، ذَهَبًا مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ، وَلا نَصِيفَهُ) رواه البخاري.
7- اعترافه بالجميل لحاطب ابن أبي بلتعة:
وهو صحابي جليل ولكنه وقع في زلة يوم فتح مكة، حيث بعث برسالة يخبر فيها أهل مكة بمقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- لفتحها، وما فعل ذلك نفاقًا وإنما فعله حتى يحمل أهل مكة على حماية قرابته، وعدم الاعتداء على أهله، ولما كشف النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره أراد بعض أصحابه أن يقتلوه، فرفض النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك وقال: (إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ) رواه البخاري ، فقد حفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- جميله وحسن بلائه يوم بدر، فعفا عنه بسبب ذلك.
8- اعترافه بالجميل لضِماد الأزدي:
وقصته رواها الإمام مسلم، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- (أَنَّ ضِمَادًا، قَدِمَ مَكَّةَ وَكَانَ مِنْ أَزْدِ شَنُوءَةَ، وَكَانَ يَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهَاءَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا مَجْنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أَنِّي رَأَيْتُ هَذَا الرَّجُلَ لَعَلَّ اللهَ يَشْفِيهِ عَلَى يَدَيَّ، قَالَ فَلَقِيَهُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنِّي أَرْقِي مِنْ هَذِهِ الرِّيحِ، وَإِنَّ اللهَ يَشْفِي عَلَى يَدِي مَنْ شَاءَ، فَهَلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَمَّا بَعْدُ) قَالَ: فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، فَأَعَادَهُنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، قَالَ: فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الْكَهَنَةِ، وَقَوْلَ السَّحَرَةِ، وَقَوْلَ الشُّعَرَاءِ، فَمَا سَمِعْتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلَاءِ، وَلَقَدْ بَلَغْنَ نَاعُوسَ الْبَحْرِ، قَالَ: فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَبَايَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَعَلَى قَوْمِكَ)، قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي، قَالَ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَرِيَّةً، فَمَرُّوا بِقَوْمِهِ، فَقَالَ صَاحِبُ السَّرِيَّةِ لِلْجَيْشِ: هَلْ أَصَبْتُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَصَبْتُ مِنْهُمْ مِطْهَرَةً، فَقَالَ: رُدُّوهَا، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمُ ضِمَادٍ. رواه مسلم. (والمطهرة إناء يتطهر به.
فهنا صاحب السرية حفظ الجميل لضماد الأزدي، وأظن أن هذا كان بأمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإن لم يكن بأمره فهو أثر من آثار تعليمه لصحابته هذا الخلق الكريم، وذاك الأدب الرائع.
9- اعترافه بالجميل لامرأة مشركة:
حيث كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه في إحدى الغزوات، وقد نفد ما معهم من ماء حتى اشتكوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- من العطش فبعث عليًا بن أبي طالب، ورجلاً معه وقال لهما: (اذْهَبَا، فَابْتَغِيَا المَاءَ) فَانْطَلَقَا، فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ -أَوْ سَطِيحَتَيْنِ- مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، فَقَالا لَهَا: أَيْنَ المَاءُ؟ قَالَتْ: عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةَ وَنَفَرُنَا خُلُوفٌ، قَالا لَهَا: انْطَلِقِي، إِذًا قَالَتْ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالا: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ، قَالا: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ، فَانْطَلِقِي، فَجَاءَا بِهَا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَدَّثَاهُ الحَدِيثَ، قَالَ: فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا، وَدَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِإِنَاءٍ، فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ المَزَادَتَيْنِ -أَوْ سَطِيحَتَيْنِ- وَأَوْكَأَ أَفْوَاهَهُمَا وَأَطْلَقَ العَزَالِيَ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ اسْقُوا وَاسْتَقُوا، فَسَقَى مَنْ شَاءَ وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ وَكَانَ آخِرُ ذَاكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ، قَالَ: (اذْهَبْ فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ)، وَهِيَ قَائِمَةٌ تَنْظُرُ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا، وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا، وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلْأَةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اجْمَعُوا لَهَا) فَجَمَعُوا لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيقَةٍ حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا، فَجَعَلُوهَا فِي ثَوْبٍ وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا، قَالَ لَهَا: (تَعْلَمِينَ، مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي أَسْقَانَا)، فَأَتَتْ أَهْلَهَا وَقَدِ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ، قَالُوا: مَا حَبَسَكِ يَا فُلاَنَةُ، قَالَتْ: العَجَبُ لَقِيَنِي رَجُلاَنِ، فَذَهَبَا بِي إِلَى هَذَا الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ فَفَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَأَسْحَرُ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ وَهَذِهِ، وَقَالَتْ: بِإِصْبَعَيْهَا الوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ، فَرَفَعَتْهُمَا إِلَى السَّمَاءِ -تَعْنِي السَّمَاءَ وَالأَرْضَ- أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَكَانَ المُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ يُغِيرُونَ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنَ المُشْرِكِينَ، وَلا يُصِيبُونَ الصِّرْمَ الَّذِي هِيَ مِنْهُ، فَقَالَتْ: يَوْمًا لِقَوْمِهَا مَا أُرَى أَنَّ هَؤُلاَءِ القَوْمَ يَدْعُونَكُمْ عَمْدًا، فَهَلْ لَكُمْ فِي الإِسْلاَمِ؟ فَأَطَاعُوهَا، فَدَخَلُوا فِي الإِسْلاَمِ” رواه البخاري.
ففي هذا الحديث الشريف نرى كيف حفظ النبي -صلى الله عليه وسلم- الجميل لهذه المرأة، فمع أنه لم ينقص من مائها شيئًا، إلا أنه حفظ لها جميلها بأن أمر سراياه ألا يتعرضوا لقوم هذه المرأة، فكان ذلك سببًا في إسلامها وإسلام قومها.
فهذه المواقف غيض من فيض من مواقفه في الاعتراف بالجميل، والإقرار بالفضل لأهله، ومن هنا يجب علينا أن نتخلق بهذا الخلق الكريم، وأن نتطبع به؛ لأنه دليل الإيمان الكامل، والخلق القويم، وهذا هو المأمول من كل مسلم.
والحمد لله رب العالمين.
المصدر: صيد الفوائد.